بتاريخ 6 من رمضان 1435هـ الموافق 4 / 7 / 2014م
رَمَضَانُ شَهْرُ الْمَغْفِرَةِ وَالإِحْسَانِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اخْتَارَ لِلْخَيْرَاتِ مَوَاسِمَ وَأَوْقَاتاً، وَتَوَلَّى عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِالإِنْعَامِ وَالإِكْرَامِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ رَمَضَانَ لِفَرْضِ الصِّيَامِ وَالتَّنَافُسِ فِي الْخَيْرَاتِ زَمَاناً وَمِيقَاتاً، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، عَبَدَ رَبَّهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً؛ وَسَعَى إِلَيْهِ إِقْبَالاً وَإِخْبَاتاً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّاعَاتِ أَشَدَّ اسْتِقَامَةً وَثَبَاتاً، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ – عِبَادَ اللهِ – وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ أَكْرَمُ مَا أَسْرَرْتُمْ، وَأَجْمَلُ مَا أَظْهَرْتُمْ، وَأَفْضَلُ مَا ادَّخَرْتُمْ؛)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70 – 71].
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ عَوَائِدَ اللهِ – عَزَّ وَجَلَّ – عَلَيْنَا فِي كُلِّ عَامٍ لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، وَفَضَائِلَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ لاَ يُحَاطُ بِهَا وَلاَ تُسْتَقْصَى، أَلاَ وَقَدْ أَظَلَّنَا مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ، وَبَلَغَنَا مِنْ هَاتِيكَ الْفَضَائِلِ وَالْفَؤَائِدِ: شَهْرُ مُبَارَكٌ كَرِيمٌ، وَمَوْسِمٌ لِلطَّاعَاتِ عَظِيمٌ، أُجُورُ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِيهِ جَزِيلَةٌ، وَفَضَائِلُ الْقُرُبَاتِ فِيهِ جَلِيلَةٌ، صِيَامُهُ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ، وَقِيَامُهُ مَزِيدُ فَضْلٍ وَإِنْعَامٍ، كَانَ رَسُولُ اللهِ r يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِوُصُولِهِ، وَيُهَنِّئُهُمْ بِحُلُولِهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ، وَاغْتِنَامِ سَاعَاتِهِ وَأَيَّامِهِ، وَيُوصِيهِمْ بِالْخَيْرِ فِي أَوَانِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ فَوَاتِهِ وَحِرْمَانِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ:«قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ].
أَلاَ فَصُومُوهُ – عِبَادَ اللهِ – حَقَّ الصِّيَامِ، وَقُومُوا لِيَالِيَهُ خَيْرَ الْقِيَامِ، وَاحْفَظُوا جَوَارِحَكُمْ فِيهِ عَنِ الْخَطَايَا وَالآثَامِ، وَاعْمُرُوا بِالطَّاعَاتِ كُلَّ أَوْقَاتِهِ، وَاغْتَنِمُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ سَاعَاتِهِ، وَاسْتَقْبِلُوهُ مُنِيبِينَ صَادِقِينَ، وَتُوبُوا فِيهِ إِلَى اللهِ نَادِمِينَ، وَاعْمَلُوا فِيهِ مُخْلِصِينَ.
أَتَـى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ الْعِبَـادِ لِتَطْهِيرِ الْقُـلُوبِ مِنَ الْفَسَـادِ
فَــأَدِّ حُقُـوقَـــهُ قـَـــــوْلاً وَفِعْـلاً وَزَادَكَ فَاتَّخِذْهُ إِلَـى الْمَـعَادِ
فَـمَنْ زَرَعَ الْحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا تَـأَوَّهَ نَادِمـاً يَـــوْمَ الْحَصَـادِ
مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ:
إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ؛ لِيَبْلُغَ مَوَاسِمَ الرَّحْمَةِ وَ يُدْرِكَ مَوَاطِنَ الْغُفْرَانِ، فَهَنِيئاً لِكُلِّ مُسْلِمٍ بَلَّّغَهُ اللهُ شَهْرَ الصِّيَامِ، وَوَفَّقَهُ فِيهِ لِمَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِ وَيَحُطُّ عَنْهُ الأَوْزَارَ وَالآثَامَ؛ فَعَنْ مَالِكِ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ t قَالَ: «صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ r الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقِيَ عَتَبَةً قَالَ: آمِينَ. ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً أُخْرَى فَقَالَ: آمِينَ. ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً ثَالِثَةً فقَالَ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: آمِينَ. قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: آمِينَ. فَقَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ].
وَمِنْ بُشْرَيَاتِ النَّبِيِّ r لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ؛ يَبْتَغِي الأَجْرَ وَالثَّوَابَ؛ مُصَدِّقاً بِوَعْدِ مَوْلاَهُ يَوْمَ الْحِسَابِ؛ غَيْرَ مُسْتَثْقِلٍ لِصِيَامِهِ، وَلاَ مُسْتَطِيلٍ لأَيَّامِهِ: غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا أَسْلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ وَآثَامِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» و «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَكَذَا مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا أَسْلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي فَضْلُ الْعِبَادَةِ فِيهَا يَزِيدُ عَلَى عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ قَالَ تَعَالَى: )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ( [القدر:1-5]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ:«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا: غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ].
وَقَدْ تَكَاثَرَتْ فِي رَمَضَانَ وُجُوهُ الْخَيْرِ وَالإِحْسَانِ، وَتَوَاصَلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ؛ مَا حَفِظَ الصَّائِمُ جَوَارِحَهُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَتَجَافَى بِنَفْسِهِ عَنِ الْكَبَائِرِ وَالْمُنْكَرَاتِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ r كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَحَسْبُ الصَّوْمِ فَضْلاً وَمَنْزِلَةً، وَدَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَمَرْتَبَةً: أَنَّهُ يَكُونُ شَفِيعاً لِصَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُبَوِّئُهُ مَنَازِلَ رَفِيعَةً فِي دَارِ الْكَرَامَةِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: «فَيُشَفَّعَانِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ].
وَفَّقَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَهَدَانَا جَمِيعاً لإِحْسَانِ الْعِبَادَةِ سُنَّةً وَفَرْضاً، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى عَبْدِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَجَعَلَ صِيَامَهُ أَحَدَ أَرْكَانِ الإِسْلاَمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَعَدَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَالآثَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَيْرُ مَنْ صَلَّى لِلَّهِ وَصَامَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْكِرَامِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً مَا تَعَاقَبَتِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ؛ يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ.
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
وَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ شَهْرَ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، فَهُوَ كَذَلِكَ شَهْرُ الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَإِنَّ نُفُوسَ الصَّائِمِينَ لَتُقْبِلُ عَلَى طَاعَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَى وُجُوهِ الْبِرِّ فِيهِ وَالْخَيْرِ وَالصَّدَقَاتِ؛ مَا لاَ تُقْبِلُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الأَوْقَاتِ، فَغَنَائِمُهُ تَتَوَالَى، وَنَفَحَاتُهُ تَتْرَى، فَمَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِماً نَالَ مِثْلَ أَجْرِهِ، وَهَذَا مَعْدُودٌ فِي الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِr: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ]. وَوُجُوهُ الإِحْسَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ مُتَنَوِّعَةٌ، وَأَبْوَابُهُ مُتَشَعِّبَةٌ مُشْرَعَةٌ، فَمِنْهَا: الإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالإِحْسَانُ إِلَى الأَقَارِبِ وَالأَرْحَامِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الأَرَامِلِ وَالأَيْتَامِ، وَالْوَصْلُ بِالْخَيْرِ لِلْجِيرَانِ، وَإِبْلاَغُ الْمَعْرُوفِ لِكُلِّ إِنْسَانٍ.
أَلاَ وَإِنَّ مِنْ أَوْلَى النَّاسِ بِإِحْسَانِنَا: مَنْ يَقْضُونَ لَنَا حَوَائِجَنَا، وَيَقُومُونَ بِِرِعَايَتِنَا، الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِينَا، وَأَمَرَنَا اللهُ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ؛ كَمَا أَمَرَهُمْ بِالإِحْسَانِ إِلَيْنَا.
وَإِنَّ مِنَ الإِحْسَانِ إِلَى الْخَادِمِ – ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنثَى – أَنْ يُؤَدَّى إِلَيْهِ رَاتِبُهُ، وَأَلاَّ يُؤَخَّرَ عَنْهُ، وَهُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لَهُ لاَ مِنَّةَ فِيهِ؛ فَإِنَّ وَرَاءَهُمْ عَائِلاَتٍ وَأُسَراً تَنْتَظِرُ مَا يَسُدُّ حَاجَاتِهَا بِذَاكَ الرَّاتِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :«أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ]. وَحُسْنُ مُعَامَلَةِ الْخَادِمِ مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ شَرْعُنَا الْحَنِيفُ؛ فَالتَّوَاضُعُ وَاللِّينُ مِنْ لُبِّ أَخْلاَقِ الْمُسْلِمِينَ؛ قَالَ أَنَسٌ t وَقَدْ خَدَمَ النَّبِيَّ r عَشْرَ سِنِينَ-: «خَدَمْتُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَ اللَّهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَلاَ يَخْفَى عَلَى أَمْثَالِكُمْ أَضْرَارُ إِهَانَةِ الْخَدَمِ وَضَرْبِهِمْ وَالإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ، فَقَدْ يَدْفَعُهُمْ ذَلِكَ الأُسْلُوبُ إِلَى الاِنْتِقَامِ وَالثَّأْرِ، فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ t قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلاَمًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ» فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ r، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ» أَوْ «لَمَسَّتْكَ النَّارُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ t: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أَقْبَلَ مِنْ خَيْبَرَ وَمَعَهُ غُلاَمَانِ وَهَبَ أَحَدَهُمَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: «لاَ تَضْرِبْهُ؛ فَإِنِّي قَدْ نُهِيتُ عَنْ ضَرْبِ أَهْلِ الصَّلاَةِ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ]. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ r ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَقَالَ: «كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
وَمِنَ الإِحْسَانِ إِلَى الْخَدَمِ أَلاَّ يُكَلَّفُوا مِنَ الأَعْمَالِ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ؛ وَبِنَظْرَةٍ إِلَى الْوَاقِعِ نَرَى أَنَّ بَعْضَ الْمَخْدُومِينَ يُكَلِّفُ خَدَمَهُ بِأَعْمَالٍ شَتَّى تُثْقِلُ كَوَاهِلَهُمْ وَتُتْعِبُهُمْ، وَلاَ تَكُونُ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الْعَمَلِ، وَهَذَا فِيهِ ظُلْمٌ وَإِجْحَافٌ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ:«إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ [أَيْ: خَدَمُكُمْ] جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ: فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ: فَأَعِينُوهُمْ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
وَيَنْبَغِي لِلْمَخْدُومِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أُمُورَ الإِسْلاَمِ الَّتِي يَعْلَمُهَا؛ مُسْلِمِينَ كَانُوا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ فَلْيَسْتَعِنْ بِاللِّجَانِ الْخَيْرِيَّةِ وَمَرَاكِزِ الْجَالِيَاتِ، وَهِيَ كَثِيَرةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَالتَّوَاصُلُ مَعَهُمْ سَهْلٌ وَمَيْسُورٌ، وَلأَنَ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ تَائِهاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ ضَالاًّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: خَيْرٌ لَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]. وَلاَ يَعْنِي هَذَا أَنْ يُتْرَكَ الْخَدَمُ - بِزَعْمِ الإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ – فَلاَ يُقَوَّمُوا إِذَا اعْوَجُّوا، وَلاَ يُحَاسَبُوا إِذَا أَهْمَلُوا، كَلاَّ بَلْ مِنَ الإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ أَنْ يُوَجَّهُوا وَيُنْصَحُوا وَلاَ يُتْرَكُوا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالإِحْسَانُ إِلَى النَّاسِ - وَمِنْهُمُ الْخَدَمُ – مِمَّا حَثَّنَا عَلَيْهِ قُرْآنُنَا، وَأَوْصَانَا بِهِ إِسْلاَمُنَا، وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي شَهْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالإِحْسَانِ؛ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُحْسِنَ الْقَوْلَ وَالْقَصْدَ وَالْعَمَلَ، فَمَا جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ عِنْدَ اللهِ إِلاَّ الإِحْسَانُ )وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( [المزمل:20].
وَقَبْلَ الْخِتَامِ نُذَكِّرُ بِأَنَّ شُؤُونَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِصَدَدِ إِقَامَةِ حَمْلَةٍ إِيمَانِيَّةٍ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْفَضِيلِ تَحْتَ شِعَارِ [الْكَهْفُ أَسْرَارٌ وَأَنْوَارٌ] تَتَنَاوَلُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَفَضَلَهَا، وَالْقَصَصَ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا، وَالدُّرُوسَ وَالْعِظَاتِ وَالْعِبَرَ الْمُسْتَخْلَصَةَ مِنْهَا، تَبْدَأُ هَذِهِ الْحَمْلَةُ مُنْذُ الأَوَّلِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى الْعِشْرِينَ مِنْهُ، فَسَاهِمُوا فِيهَا؛ فَإِنَّهَا مِنْ نَفَحَاتِ هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ وَتَرْكِ سَائِرِ الآثَامِ، وَاجْعَلْنَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْمُبَارَكِ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الْمُوَحِّدِينَ وَالْمُوَحِّدَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاَةَ أُمُورِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق